فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{مَثَل الذينَ اتخَذوا منْ دون الله أَوْليَاءَ كَمَثَل الْعَنْكَبوت اتخَذَتْ بَيْتًا}.
لما بينت لهم الأشباه والأمثال من الأمم التي اتخذت الأصنام من دون الله فما أغنت عنهم أصنامهم لما جاءهم عذاب الله أعقب ذلك بضرب المثل لحال جميع أولئك وحال من ماثلهم من مشركي قريش في اتخاذهم ما يحسبونه دافعًا عنهم وهو أضعف من أن يدفع عن نفسه، بحال العنكبوت تتخذ لنفسها بيتًا تحسب أنها تعتصم به من المعتدي عليها فإذا هو لا يصمد ولا يثبت لأضعف تحريك فيسقط ويتمزق.
والمقصود بهذا الكلام مشركو قريش، وتعلم مساواة غيرهم لهم في ذلك بدلالة لحن الخطاب، والقرينة قوله بعده {إن الله يعلم ما تدعون من دونه من شيء} [العنكبوت: 42] فضمير {اتخذوا} عائد إلى معلوم من سياق الكلام وهم مشركو قريش.
وجملة {اتخذت بيتًا} حال من {العنكبوت} وهي قيد في التشبيه.
وهذه الهيئة المشبه بها مع الهيئة المشبهة قابلة لتفريق التشبيه على أجزائها فالمشركون أشبهوا العنكبوت في الغرور بما أعدوه، وأولياؤهم أشبهوا بيت العنكبوت في عدم الغناء عمن اتخذوها وقت الحاجة إليها وتزول بأقل تحريك، وأقصى ما ينتفعون به منها نفع ضعيف وهو السكنى فيها وتوهم أن تدفع عنهم كما ينتفع المشركون بأوهامهم في أصنامهم.
وهو تمثيل بديع من مبتكرات القرآن كما سيأتي قريبًا عند قوله: {وتلك الأمثال نضربها للناس} في هذه السورة.
(43) و{العنكبوت} صنف من الحشرات ذات بطون وأرجل وهي ثلاثة أصناف، منها صنف يسمى ليث العناكب وهو الذي يفترس الذباب، وكلها تتخذ لأنفسها نسيجًا تنسجه من لعابها يكون خيوطًا مشدودة بين طرفين من الشجر أو الجدران، وتتخذ في وسط تلك الخيوط جانبًا أغلظ وأكثر اتصال خيوط تحتجب فيه وتفرخ فيه.
وسمي بيتًا لشبهه بالخيمة في أنه منسوج ومشدود من أطرافه فهو كبيت الشعر.
وجملة {وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت} معترضة مبينة وجه الشبه.
وهذه الجملة تجري مجرى المثل فيضرب لقلة جدوى شيء فاقتضى ذلك أن الأديان التي يعبد أهلها غير الله هي أحقر الديانات وأبعدها عن الخير والرشد وإن كانت متفاوتة فيما يعرض لتلك العبادات من الضلالات كما تتفاوت بيوت العنكبوت في غلظها بحسب تفاوت الدويبات التي تنسجها في القوة والضعف.
وجملة {لو كانوا يعلمون} متصلة بجملة {كمثل العنكبوت} لا بجملة {وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت}.
فتقدير جواب {لو} هكذا: لو كانوا يعلمون أن ذلك مثَلهم، أي ولكنهم لا يعلمون انعدام غناء ما اتخذوه عنهم.
وأما أوهنية بيت العنكبوت فلا يجهلها أحد.
{إن اللهَ يَعْلَم مَا يَدْعونَ منْ دونه منْ شَيْءٍ}.
لما نفى عنهم العلم بما تضمنه التمثيل من حقارة أصنامهم التي يعبدونها وقلة جدواها بقوله: {لو كانوا يعلمون} [العنكبوت: 41] المفيد أنهم لا يعلمون، أعقبه بإعلامهم بعلمه بدقائق أحوال تلك الأصنام على اختلافها واختلاف معتقدات القبائل التي عبدتها، وأن من آثار علمه بها ضرب ذلك المثل لحال من عبدوها وحالها أيضًا دفعًا بهم إلى أن يتهموا عقولهم وأن عليهم النظر من حقائق الأشياء تعريضًا بقصور علمهم كقوله تعالى: {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [البقرة: 216] ، فهذا توقيف لهم على تفريطهم في علم حقائق الأمور التي عَلمها الله وأبلغهم دلائلها النظرية ونظائرها التاريخية، وقربها إليهم بالتمثيلات الحسية فعموا وصموا عن هذا وذاك.
و{ما} من قوله: {ما تدعون} يجوز أن تكون نافية معلقة فعل {يعلم} عن العمل، وتكون {من} زائدة لتوكيد النفي، ومجرورها مفعول في المعنى ل {تدعون} ظهرت عليه حركة حرف الجر الزائد.
ومعنى الكلام: أن الله يعلم أنكم لا تدعون موجودًا ولكنكم تدعون أمورًا عدمية، ففيه تحقير لأصنامهم بجعلها كالعدم لأنها خلو عن جميع الصفات اللائقة بالإلهية.
فهي في بابها كالعدم فلما شابهت المعدومات في انتفاء الفائدة المزعومة لها استعمل لها التركيب الدال على نفي الوجود على طريقة التمثيلية.
ولا يتوهم السامع أن المراد نفي أن يكونوا قد دعوا أولياء من دون الله، لأن سياق الكلام سابقه ولاحقه يأباه وهذا كقوله تعالى: {ليست النصارى على شيء} في سورة البقرة (113) و{لستم على شيء} في سورة المائدة (68)، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الكهان: إنهم ليسوا بشيء، أي ليسوا بشيء فيما يدعونه من معرفة الغيب.
وحاصل المعنى: أن من علمه تعالى بأنها موجودات كالعدم ضرَبَ لها مثلًا ببيت العنكبوت ولعبدتها مثلًا بالعنكبوت الذي اتخذها، وعلى هذا الوجه فالكلام صريح في إبطال إلهية الأصنام وفي أنها كالعدم.
ويجوز أن تكون {ما} استفهامية معلقة فعل {يعلم} عن العمل من باب قولهم: علمت هل زيد قائم، أي علمت جوابه.
و{من} بيانية لما في {ما} الاستفهامية من الإبهام، أي من شيء من المدعوات العديدة في الأمم.
ففيه تعريض بأن المشركين لا يعلمون جواب سؤال السائل ما تدعون من دون الله، أي قد علم الله ذلك، ومن علمه بذلك أنه ضرب لهم المثل بالعنكبوت اتخذت بيتًا، وللمعبودات مثلًا ببيت العنكبوت، وأنتم لو سئلتم: ما تدعون من دون الله، لتلعثمتم ولم تحيروا جوابًا؛ فإن شأن العقائد الباطلة والأفهام السقيمة أن لا يستطيع صاحبها بيانها بالقول وشرحها، لأنها لما كانت تتألف من تصديقات غير متلائمة لا يستطيع صاحبها تقريرها فلا يلبث قليلًا حتى يفتضح فاسد معتقده من تعذر إفصاحه عنه.
وجعل بعض المفسرين {يعلم} هنا متعديًا إلى مفعول واحد وأنه بمعنى يعرف وجعل {ما} موصولة مفعول {يدعون} والعائذ محذوفًا، ويعكر عليه أن إسناد العلم بمعنى المعرفة وهو المتعدي إلى مفعول واحد إلى الله يؤول إلى إسناد فعل المعرفة إلى الله بناء على إثبات الفرق بين فعل علم وفعل عرف عند من فسر المعرفة بإدراك الشيء بواسطة آثاره وخصائصه المحسوسة، وأنها أضعف من العلم لأن العلم شاع في معرفة حقائق الأشياء ونسبها.
وعن الخليل بن أحمد: العلم معرفتان مجتمعان، ففي قولك: عرفت زيدًا قائمًا، يكون {قائمًا} حالًا من زيدًا، وفي قولك: علمت زيدًا قائمًا، يكون قائمًا مفعولًا ثانيًا ل علمت. اهـ.
يريد أن فعل عرف يدل على إدراك واحد وهو إدراك الذات، وفعل علم يدل على إدراكين هما إدراك الذات وإدراك ثبوت حكم لها، على نحو ما قاله أهل المنطق في التصور والتصديق، فلذلك لم يرد في الكتاب والسنة إسناد فعل المعرفة إلى الله فكيف يسند إليه ما يؤول بمعناها.
وجملة {وهو العزيز الحكيم} تذييل لجملة {إن الله يعلم} لأن الجملة على كلا المعنيين في معاني {ما} تدل على أن الذي بين حقارة حال الأصنام واختلال عقول عابديها فلم يعبأ بفضحها وكشفها بما يسوءها مع وفرة أتباعها ومع أوهام أنها لا يمسها أحد بسوء إلا كانت ألْبًا عليه؛ فلو كان للأصنام حظ في الإلهية لما سلم من ضرها من يحقرها كقوله تعالى: {قل لو كان معه ءالهة كما تقولون إذن لابتغوا إلى ذي العرش سبيلًا} [الإسراء: 42] كما تقدم، وأنه لما فضح عقول عبادها لم يخشهم على أوليائه بَلْهَ ذاته، فهو عزيز لا يغلب، وحكيم لا تنطلي عليه الأوهام والسفاسط بخلاف حال هاتيك وأولئك.
وقرأ الجمهور {تدعون} بالفوقية على طريقة الالتفات.
وقرأه أبو عمرو وعاصم ويعقوب بالتحتية.
{وَتلْكَ الْأَمْثَال نَضْربهَا للناس وَمَا يَعْقلهَا إلا الْعَالمونَ (43)}.
بعد أن بين الله لهم فساد معتقدهم في الأصنام، وأعقبه بتوقيفهم على جهلهم بذلك، نعى عليهم هنا أنهم ليسوا بأهل لتفهم تلك الدلائل التي قربت إليهم بطريقة التمثيل، فاسم الإشارة يبينه الاسم المبدل منه وهو {الأمثال}.
والإشارة إلى حاضر في الأذهان فإن كل من سمع القرآن حصل في ذهنه بعض تلك الأمثال.
واسم الإشارة للتنويه بالأمثال المضروبة في القرآن التي منها هذا المثل بالعنكبوت.
وجملة {نضربها للناس} خبر عن اسم الإشارة.
وهذه الجملة الخبرية مستعملة في الامتنان والطول لأن في ضرب الأمثال تقريبًا لفهم الأمور الدقيقة.
قال الزمخشري: ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيئات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق حتى تريك المتخيل في صورة المتحقق والغائب كالمشاهد.
وقد تقدم بيان مزية ضرب الأمثال عند قوله تعالى: {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلًا ما بعوضة فما فوقها} في سورة البقرة (26).
ولهذا اتبعت هذه الجملة بجملة {وما يعقلها إلا العالمون}.
والعقل هنا بمعنى الفهم، أي لا يفهم مغزاها إلا الذين كملت عقولهم فكانوا علماء غير سفهاء الأحلام.
وفي هذا تعريض بأن الذين لم ينتفعوا بها جهلاء العقول، فما بالك بالذين اعتاضوا عن التدبر في دلالتها باتخاذها هزءًا وسخرية، فقالت قريش لما سمعوا قوله تعالى: {إن الذين تَدْعون من دون الله لن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يستنقذوه منه} [الحج: 73] ، وقوله: {كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا} [العنكبوت: 41] قالوا: ما يستحيي محمد أن يمثل بالذباب والعنكبوت والبعوض.
وهذا من بهتانهم، وإلا فقد علم البلغاء أن لكل مقام مقالًا، ولكل كلمة مع صاحبتها مقام.
{خَلَقَ الله السمَاوَات وَالْأَرْضَ بالْحَق إن في ذَلكَ لَآيَةً للْمؤْمنينَ (44)}.
بعد أن بين الله تعالى عدم انتفاع المشركين بالحجة ومقدماتها ونتائجها الموصلة إلى بطلان إلهية الأصنام مستوفاة مغنية لمن يريد التأمل والتدبر في صحة مقدماتها بإنصاف نقل الكلام إلى مخاطبة المؤمنين لإفادة التنويه بشأن المؤمنين إذ انتفعوا بما هو أدق من ذلك وهو حالة النظر والفكر في دلالة الكائنات على أن خالقها هو الله، وأن لا شيء غيره حقيقًا بمشاركته في إلهيته، فأفاد أن المؤمنين قد اهتدوا إلى العلم ببطلان إلهية الأصنام خلافًا للمشركين الذين لم يهتدوا بذلك.
فأفهم ذلك أن من لم يعقلوها ليسوا بعالمين أخذًا من مفهوم الصفة في قوله: {للمؤمنين} إذا اعتبر المعنى الوصفي من قوله: {للمؤمنين} أو أخذًا من الاقتصار على ذكر المؤمنين في قوله: {إن في ذلك لآية للمؤمنين} إذا اعتبر عنوان المؤمنين لقبًا.
والاقتصار عند ذكر دليل الوحدانية على انتفاع المؤمنين بتلك الدلالة المفيد بأن المشركين لم ينتفعوا بذلك يشبه الاحتباك بين الآيتين.
والباء في {بالحق} للملابسة، أي خلقهما على أحوالهما كلها بما ليس بباطل.
والباطل في كل شيء لا وفاء فيه بما جعل هو له.
وضد الباطل الحق، فالحق في كل عمل هو إتقانه وحصول المراد منه، قال تعالى: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما باطلًا} [ص: 27].
والمراد بالسماوات والأرض ما يشمل ذاتهما والموجودات المظروفة فيهما.
وهذا الخلق المتقن الذي لا تقصير فيه عما أريد منه هو آية على وحدانية الخالق وعلى صفات ذاته وأفعاله.
{اتْل مَا أوحيَ إلَيْكَ منَ الْكتَاب وَأَقم الصلَاةَ إن الصلَاةَ}.
بعد أن ضرب الله للناس المثل بالأمم السالفة جاء بالحجة المبينة فساد معتقد المشركين، ونوه بصحة عقائد المؤمنين بمنتهى البيان الذي ليس وراءه مطلب أقبل على رسوله بالخطاب الذي يزيد تثبيته على نشر الدعوة وملازمة الشرائع وإعلان كلمة الله بذلك، وما فيه زيادة صلاح المؤمنين الذين انتفعوا بدلائل الوحدانية.
وما الرسول عليه الصلاة والسلام إلا قدوة للمؤمنين وسيدهم فأمره أمر لهم كما دل عليه التذييل بقوله: {والله يعلم ما تصنعونلآيَةً للْمؤْمنينَ اتل مَا أوْحىَ إلَيْكَ منَ الكتاب وَأَقم الصلاة إن} بصيغة جمع المخاطبين كقوله: {فاستقم كما أمرتَ ومن تاب معك} [هود: 112] قرآن إذ ما فرط فيه من شيء من الإرشاد.
وحذف متعلق فعل {اتْل} ليعم التلاوة على المسلمين وعلى المشركين.
وهذا كقوله تعالى: {إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها} إلى قوله: {وأن أتلو القرءان فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين} [النمل: 91، 92].
وأمره بإقامة الصلاة لأن الصلاة عمل عظيم، وهذا الأمر يشمل الأمة فقد تكرر الأمر بإقامة الصلاة في آيات كثيرة.
وعلل الأمر بإقامة الصلاة بالإشارة إلى ما فيها من الصلاح النفساني فقال: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} فموقع {إن} هنا موقع فاء التعليل ولا شك أن هذا التعليل موجه إلى الأمة لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الفحشاء والمنكر فاقتصر على تعليل الأمر بإقامة الصلاة دون تعليل الأمر بتلاوة القرآن لما في هذا الصلاح الذي جعله الله في الصلاة من سر إلهي لا يهتدي إليه الناس إلا بإرشاد منه تعالى؛ فأخبر أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والمقصود أنها تنهى المصلي.
وإذ قد كانت حقيقة النهي غير قائمة بالصلاة تعين أن فعل {تنهى} مستعمل في معنى مجازي بعلاقة أو مشابهة.
والمقصود: أن الصلاة تيسر للمصلي ترك الفحشاء والمنكر.
وليس المعنى أن الصلاة صارفة المصلي عن أن يرتكب الفحشاء والمنكر فإن المشاهد يخالفه إذ كم من مصل يقيم صلاته ويقترف بعض الفحشاء والمنكر.
كما أنه ليس يصح أن يكون المراد أنها تصرف المصلي عن الفحشاء والمنكر ما دام متلبسًا بأداء الصلاة لقلة جدوى هذا المعنى.